كم مرة قلت أو استمعت لمن يقول إن الشعب المصرى لا يصلح للديمقراطية؟! كم مرة قلت أو استمعت لمن يقول إن المصرى يحتاج لمن يثقفه ويعلمه حتى يمارس حقوقه السياسية؟!
أنا استمعت إلى هذه الآراء عشرات المرات داخل مصر وخارجها، وفى كل مرة كنت أشرح لأصحاب هذه الآراء أن تاريخ مصر الحديث يؤكد أن الشعب المصرى تصرف دائما بوعى سياسى صحيح. كنت أقول لهؤلاء أنتم تتحدثون عن الشعب باعتباره فكرة أو تعبيراً نظرياً، بينما الشعب واقع حى. الشعب يعنى ملايين الأشخاص الذين قد يختلفون فى الخلفية الاجتماعية أو الثقافية، لكنهم فى لحظة ما يملكون شعورا واحدا وعقلا جمعيا يمكنهم من اتخاذ موقف موحد عادة ما يكون صحيحا. الشعب هو الذى صنع الثورات المصرية جميعا.
مازلت أذكر يوم 25 يناير عندما وصل آلاف المتظاهرين من إمبابة لينضموا إلى ميدان التحرير. هؤلاء البسطاء الفقراء هم الذين دافعوا عن المتظاهرين ضد اعتداءات جنود الأمن المركزى، ولولاهم ما نجحت الثورة. الشعب البطل الحقيقى فيما حدث يوم الأحد الماضى 24 يونيو. ذلك التاريخ الذى يشكل نقطة فارقة فى تاريخ مصر والعالم العربى كله. على مدى 16 شهرا نفذ المجلس العسكرى مخططا معداً بعناية من أجل إجهاض الثورة المصرية: انفلات أمنى وحوادث طائفية وترويع للمصريين، أقباطا ومسلمين، وأزمات معيشية مصطنعة، بالإضافة إلى حملات منظمة لتشويه الثورة ومذابح متوالية للثوار، سقط فيها شهداء كثيرون وتم انتهاك أعراض بنات مصر على أيدى أفراد الجيش والشرطة.
كان المخطط يستهدف الضغط على المواطن المصرى لدرجة تجعله يتعلق بأى شخص يستطيع أن يعيد الأمن.. وهكذا تم الدفع بأحمد شفيق وحمايته من 35 قضية فساد موثقة ومن قانون العزل السياسى.. وعندما أسفرت النتائج عن خوض شفيق ومرسى جولة الإعادة، كانت المؤشرات كلها تؤكد فوز شفيق. فقد خسر الإخوان تعاطف معظم الثوريين، نتيجة لتخاذلهم عن نصرة الثورة من أجل مصالحهم، كما أن قطاعا كبيرا من الأقباط أصابهم الفزع من الإخوان فقرروا التصويت لشفيق، بالإضافة إلى فلول النظام القديم الذين أغدقوا ملايينهم المنهوبة على شفيق، لأنه فرصتهم الأخير للعودة للسلطة. أضف إلى ذلك جهاز الدولة بالكامل، الذى ساند شفيق بكل قوته، بدءاً من كبار ضباط الداخلية وأمن الدولة إلى الوزارات والهيئات والإعلام الحكومى، الذى عاد إلى سيرته الأولى فى التضليل والكذب، والإعلام الخاص المملوك لرجال أعمال تفانى معظمهم فى الترويج لشفيق، حرصا على مصالحهم الضخمة.
قرر كثيرون - وأنا منهم - مقاطعة الانتخابات، اعتراضا على وجود شفيق بدلا من عزله ومحاكمته. فى ظل هذه الظروف كان فوز شفيق حتميا، لكن مفاجأة كبرى حدثت.. كانت طاقة الإخوان الانتخابية لا تزيد على 5 ملايين ناخب «الذين صوتوا لمرسى فى الجولة الأولى»، ولكن عندما جاءت الإعادة نزل 8 ملايين مصرى وقرروا التصويت لصالح مرسى، ليس لأنهم ينتمون للإخوان المسلمين، لكن لأنهم أدركوا أن النظام القديم لو عاد إلى الحكم، ممثلا فى شفيق تلميذ مبارك المخلص، فإن الثورة المصرية تكون قد انتهت.
إن تصويت الملايين لمرشح الإخوان كان مفاجأة شعبنا الواعى التى قلبت كل الموازين وأحبطت مخطط إجهاض الثورة. وقد وقع المجلس العسكرى فى ورطة، فأصدر إعلانا دستوريا مكملا يقلص صلاحيات الرئيس قبل إعلان النتيجة بساعات. تم تأجيل إعلان النتيجة النهائية للانتخابات إلى يوم الخميس، ثم إلى يوم الأحد، وهنا أدرك الشعب مرة أخرى أن شيئا ما يحاك فى الكواليس، فنزل الملايين إلى الشوارع - من المنتمين للإخوان وغيرهم - ليشكل احتشادهم عنصر الضغط على من يريد أن يزيف إرادة الناخبين.
سوف يكشف التاريخ يوما ما تفاصيل ما حدث فى اللجنة العليا للانتخابات قبل إعلان النتيجة، وقد تناثرت روايات كلها تؤكد حقيقة واحدة: بالرغم من أن النظام القضائى فى مصر غير مستقل وتابع للسلطة التنفيذية فإن لدينا قضاة مستقلين عندهم من الضمير والشجاعة ما يدفعهم لقول الحق مهما يكن الثمن.
لقد شكل المستشار زكريا عبدالعزيز مع مجموعة من القضاة جماعة «قضاة من أجل مصر»، وقاموا بمراقبة الانتخابات، وأكدوا فوز محمد مرسى بفارق عن شفيق يقترب من مليون صوت.. المستشار زكريا - كما أعرفه - لا يوافق على أفكار الإخوان ولا سياساتهم، لكنه قاض جليل لا يعرف إلا الحق. لقد كان تقرير القضاة المستقلين مبادرة نزيهة وشجاعة أحرجت الذين ألفوا تزوير إرادة الشعب.
الثورة المصرية حققت نصرا عظيما بإسقاط شفيق وفوز محمد مرسى، الذى - بغض النظر عن اختلافنا السياسى معه - هو أول رئيس جمهورية مدنى منتخب فى تاريخ مصر الحديث. هذا الانتصار لإرادة الشعب لن يؤثر فى مصر فقط وإنما سوف يدفع عجلة التغيير فى البلاد العربية التى تتطلع إلى التخلص من حكام مستبدين، فاسدين، جاثمين على أنفاس شعوبهم منذ عقود.
واجبنا أن نهنئ الرئيس مرسى، لكن واجبنا أيضا أن نذكره بعدة حقائق:
أولا: إن الرئيس الجديد لم ينجح بأصوات الإخوان فقط ولم تكن أصوات الإخوان وحدها قادرة على إنجاحه. لقد نجح بأصوات ملايين المصريين، الذين رأوا فى دعمه الوسيلة الوحيدة لمنع عودة نظام مبارك، وبالتالى فإن الرئيس مرسى مسؤول أمام المصريين جميعا، ونحن نطالبه بأن يقطع علاقته التنظيمية بالإخوان المسلمين تماما وفورا، وكما وعد يجب أن يشكل حكومة ائتلافية تضم وزراء الثورة من مختلف الاتجاهات السياسية.
ثانيا: على مدى عام ونصف العام، امتنع المجلس العسكرى عن تحقيق أهداف الثورة ورفض أى تغيير فى بنية نظام مبارك. الآن بعد فوز الرئيس المنتخب لا يمكن تأجيل التغيير: نتوقع من الرئيس مرسى أن يساعد على إقرار قانون السلطة القضائية حتى يستقل القضاء عن السلطة التنفيذية، نتوقع منه إلغاء الإعلان الدستورى المكمل، الذى يضع المجلس العسكرى فوق كل سلطات الدولة، لابد من محاكمة جميع المتهمين بالفساد - وأولهم أحمد شفيق - لابد من تطهير جهاز الشرطة من الفاسدين والجلادين وقتلة المتظاهرين.. لابد من إغلاق مباحث أمن الدولة ومنع قمع أجهزة الأمن للمواطنين.. لابد من منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية والإفراج عن 12 ألف مدنى محبوسين فى السجن الحربى وإعادة محاكماتهم أمام قاضيهم الطبيعى.. لابد من تحديد الحدين الأدنى والأقصى للأجور والقضاء على الفقر والبطالة.. لقد قامت هذه الثورة من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. سيكتسب الرئيس مصداقيته أو يخسرها بقدر إخلاصه لمبادئ الثورة.
ثالثا: لم يكن لمحمد مرسى أن يصل إلى منصب الرئيس لولا 1200 شاب مصرى ضحوا بحياتهم أثناء الثورة، وألف مصرى مازالوا مفقودين «غالبا تم قتلهم ودفنهم فى أماكن مجهولة»، بالإضافة إلى آلاف المصابين، كثيرون منهم فقدوا عيونهم بالخرطوش.. هؤلاء أصحاب الفضل على مصر، بعد ربنا سبحانه وتعالى، ولولا تضحياتهم لما كان لنا أن نعيش هذه اللحظة. إن واجب الرئيس مرسى أن يبدأ فورا فى تحقيق القصاص العادل من قتلة الشهداء ورعاية أسرهم وعلاج المصابين على أعلى مستوى داخل مصر أو خارجها على نفقة الدولة. لا يجوز للرئيس الجديد أن يترك مصابى الثورة لرعاية فاعلى الخير. لا يجوز أن يترك قتلة الشهداء أحرارا محتفظين بوظائفهم وكأنهم لم يسفكوا دماء بريئة لشباب كل ذنبه أنه انتفض من أجل كرامة المصريين.
رابعا: أمام الرئيس طريقان لا ثالث لهما: إما أن يحقق أهداف الثورة للمصريين جميعا، وإما أن يحقق مصالح جماعة الإخوان المسلمين عن طريق اتفاقات سرية مع المجلس العسكرى.. أرجو ألا يكرر الإخوان أخطاءهم التاريخية، فقد كانوا للأسف، منذ إنشاء الجماعة عام 1928، يعتبرون أن مصلحة الجماعة هى ذاتها مصلحة الوطن، مما أوقعهم دائما فى تحالفات مع السلطة أضرت كثيرا بالحركة الوطنية.. كان آخرها تحالفهم مع المجلس العسكرى بعد الثورة، الذى أضاع علينا فرصة كتابة دستور جديد وأوقعنا فى هذه المحنة. إن مهمة مرسى لن تكون سهلة لأنه سيواجه نظام مبارك، الذى مازال مسيطرا على الدولة، وأتوقع أن يقاوم التغيير بشدة. فى معركته الضارية مع نظام مبارك سيحتاج الرئيس إلى دعم المصريين جميعا، ولن يحصل عليه إلا إذا ناضل من أجل مصر وليس من أجل الإخوان المسلمين.
خامسا: تعهد الرئيس مرسى دائما بالحفاظ على «مدنية الدولة»، وهذا التعبير يمكن تفسيره بطرق مختلفة. المقصود بمدنية الدولة فى رأيى تحقيق ركائز أربع:
الركيزة الأولى: حقوق المواطنة.. المواطن المصرى يجب أن يحصل على حقوقه كاملة بغض النظر عن دينه. كل حقوق الأقباط التى أهدرت أيام مبارك يجب أن يحصلوا عليها فى عهد الرئيس الجديد، كما يقضى الإسلام الحقيقى. الركيزة الثانية: حماية الحريات الشخصية المستقرة فى مصر منذ قرون. من مظاهر حضارة مصر أنك وحدك تحدد أسلوب حياتك فى حدود القانون، أما لو تم الاعتداء على الحريات الشخصية من أجل تنفيذ برنامج أخلاقى يحيل المواطنين إلى رعايا مقموعين تحت الوصاية، كما يحدث فى السودان والسعودية، فستكون هذه عودة إلى عصور الظلام وكارثة على مصر كلها.. الركيزة الثالثة: حماية حرية الفكر والإبداع، وهنا نحذر الرئيس من الاستماع إلى أصوات المتشددين المعادين للثقافة والفن. لقد كانت مصر دائما قلعة الفن والفكر فى الشرق.
لن نقبل أبدا بأن يخضع الإبداع لرقابة المتزمتين، لأن ذلك سيؤدى إلى ضياع تراثنا الفنى والقضاء على الإبداع المصرى، الذى نفخر به جميعا.. الفكر لا يواجه إلا بالفكر والإبداع، لا سلطان لأحد عليه إلا بالقانون. هذه هى القاعدة الذهبية لحماية الثقافة المصرية.. الركيزة الرابعة: أى محاولة لتطبيق الحدود طبقا للشريعة الآن ستؤدى إلى تمزق المجتمع المصرى، والدكتور مرسى يعرف جيدا أنه لا يمكن تطبيق العقوبات فى الشريعة قبل القضاء على الفقر والجهل والمرض. لا يجوز قطع أيدى السارقين قبل أن نوفر لهم حياة كريمة. هذه قاعدة إنسانية قبل أن تكون فقهية.
إن الشعب المصرى، الذى انتخب محمد مرسى، ينتظر منه الكثير، وسوف يسانده بقوة مادام يعمل لصالح مصر ويحقق أهداف الثورة.
الديمقراطية هى الحل
أنا استمعت إلى هذه الآراء عشرات المرات داخل مصر وخارجها، وفى كل مرة كنت أشرح لأصحاب هذه الآراء أن تاريخ مصر الحديث يؤكد أن الشعب المصرى تصرف دائما بوعى سياسى صحيح. كنت أقول لهؤلاء أنتم تتحدثون عن الشعب باعتباره فكرة أو تعبيراً نظرياً، بينما الشعب واقع حى. الشعب يعنى ملايين الأشخاص الذين قد يختلفون فى الخلفية الاجتماعية أو الثقافية، لكنهم فى لحظة ما يملكون شعورا واحدا وعقلا جمعيا يمكنهم من اتخاذ موقف موحد عادة ما يكون صحيحا. الشعب هو الذى صنع الثورات المصرية جميعا.
مازلت أذكر يوم 25 يناير عندما وصل آلاف المتظاهرين من إمبابة لينضموا إلى ميدان التحرير. هؤلاء البسطاء الفقراء هم الذين دافعوا عن المتظاهرين ضد اعتداءات جنود الأمن المركزى، ولولاهم ما نجحت الثورة. الشعب البطل الحقيقى فيما حدث يوم الأحد الماضى 24 يونيو. ذلك التاريخ الذى يشكل نقطة فارقة فى تاريخ مصر والعالم العربى كله. على مدى 16 شهرا نفذ المجلس العسكرى مخططا معداً بعناية من أجل إجهاض الثورة المصرية: انفلات أمنى وحوادث طائفية وترويع للمصريين، أقباطا ومسلمين، وأزمات معيشية مصطنعة، بالإضافة إلى حملات منظمة لتشويه الثورة ومذابح متوالية للثوار، سقط فيها شهداء كثيرون وتم انتهاك أعراض بنات مصر على أيدى أفراد الجيش والشرطة.
كان المخطط يستهدف الضغط على المواطن المصرى لدرجة تجعله يتعلق بأى شخص يستطيع أن يعيد الأمن.. وهكذا تم الدفع بأحمد شفيق وحمايته من 35 قضية فساد موثقة ومن قانون العزل السياسى.. وعندما أسفرت النتائج عن خوض شفيق ومرسى جولة الإعادة، كانت المؤشرات كلها تؤكد فوز شفيق. فقد خسر الإخوان تعاطف معظم الثوريين، نتيجة لتخاذلهم عن نصرة الثورة من أجل مصالحهم، كما أن قطاعا كبيرا من الأقباط أصابهم الفزع من الإخوان فقرروا التصويت لشفيق، بالإضافة إلى فلول النظام القديم الذين أغدقوا ملايينهم المنهوبة على شفيق، لأنه فرصتهم الأخير للعودة للسلطة. أضف إلى ذلك جهاز الدولة بالكامل، الذى ساند شفيق بكل قوته، بدءاً من كبار ضباط الداخلية وأمن الدولة إلى الوزارات والهيئات والإعلام الحكومى، الذى عاد إلى سيرته الأولى فى التضليل والكذب، والإعلام الخاص المملوك لرجال أعمال تفانى معظمهم فى الترويج لشفيق، حرصا على مصالحهم الضخمة.
قرر كثيرون - وأنا منهم - مقاطعة الانتخابات، اعتراضا على وجود شفيق بدلا من عزله ومحاكمته. فى ظل هذه الظروف كان فوز شفيق حتميا، لكن مفاجأة كبرى حدثت.. كانت طاقة الإخوان الانتخابية لا تزيد على 5 ملايين ناخب «الذين صوتوا لمرسى فى الجولة الأولى»، ولكن عندما جاءت الإعادة نزل 8 ملايين مصرى وقرروا التصويت لصالح مرسى، ليس لأنهم ينتمون للإخوان المسلمين، لكن لأنهم أدركوا أن النظام القديم لو عاد إلى الحكم، ممثلا فى شفيق تلميذ مبارك المخلص، فإن الثورة المصرية تكون قد انتهت.
إن تصويت الملايين لمرشح الإخوان كان مفاجأة شعبنا الواعى التى قلبت كل الموازين وأحبطت مخطط إجهاض الثورة. وقد وقع المجلس العسكرى فى ورطة، فأصدر إعلانا دستوريا مكملا يقلص صلاحيات الرئيس قبل إعلان النتيجة بساعات. تم تأجيل إعلان النتيجة النهائية للانتخابات إلى يوم الخميس، ثم إلى يوم الأحد، وهنا أدرك الشعب مرة أخرى أن شيئا ما يحاك فى الكواليس، فنزل الملايين إلى الشوارع - من المنتمين للإخوان وغيرهم - ليشكل احتشادهم عنصر الضغط على من يريد أن يزيف إرادة الناخبين.
سوف يكشف التاريخ يوما ما تفاصيل ما حدث فى اللجنة العليا للانتخابات قبل إعلان النتيجة، وقد تناثرت روايات كلها تؤكد حقيقة واحدة: بالرغم من أن النظام القضائى فى مصر غير مستقل وتابع للسلطة التنفيذية فإن لدينا قضاة مستقلين عندهم من الضمير والشجاعة ما يدفعهم لقول الحق مهما يكن الثمن.
لقد شكل المستشار زكريا عبدالعزيز مع مجموعة من القضاة جماعة «قضاة من أجل مصر»، وقاموا بمراقبة الانتخابات، وأكدوا فوز محمد مرسى بفارق عن شفيق يقترب من مليون صوت.. المستشار زكريا - كما أعرفه - لا يوافق على أفكار الإخوان ولا سياساتهم، لكنه قاض جليل لا يعرف إلا الحق. لقد كان تقرير القضاة المستقلين مبادرة نزيهة وشجاعة أحرجت الذين ألفوا تزوير إرادة الشعب.
الثورة المصرية حققت نصرا عظيما بإسقاط شفيق وفوز محمد مرسى، الذى - بغض النظر عن اختلافنا السياسى معه - هو أول رئيس جمهورية مدنى منتخب فى تاريخ مصر الحديث. هذا الانتصار لإرادة الشعب لن يؤثر فى مصر فقط وإنما سوف يدفع عجلة التغيير فى البلاد العربية التى تتطلع إلى التخلص من حكام مستبدين، فاسدين، جاثمين على أنفاس شعوبهم منذ عقود.
واجبنا أن نهنئ الرئيس مرسى، لكن واجبنا أيضا أن نذكره بعدة حقائق:
أولا: إن الرئيس الجديد لم ينجح بأصوات الإخوان فقط ولم تكن أصوات الإخوان وحدها قادرة على إنجاحه. لقد نجح بأصوات ملايين المصريين، الذين رأوا فى دعمه الوسيلة الوحيدة لمنع عودة نظام مبارك، وبالتالى فإن الرئيس مرسى مسؤول أمام المصريين جميعا، ونحن نطالبه بأن يقطع علاقته التنظيمية بالإخوان المسلمين تماما وفورا، وكما وعد يجب أن يشكل حكومة ائتلافية تضم وزراء الثورة من مختلف الاتجاهات السياسية.
ثانيا: على مدى عام ونصف العام، امتنع المجلس العسكرى عن تحقيق أهداف الثورة ورفض أى تغيير فى بنية نظام مبارك. الآن بعد فوز الرئيس المنتخب لا يمكن تأجيل التغيير: نتوقع من الرئيس مرسى أن يساعد على إقرار قانون السلطة القضائية حتى يستقل القضاء عن السلطة التنفيذية، نتوقع منه إلغاء الإعلان الدستورى المكمل، الذى يضع المجلس العسكرى فوق كل سلطات الدولة، لابد من محاكمة جميع المتهمين بالفساد - وأولهم أحمد شفيق - لابد من تطهير جهاز الشرطة من الفاسدين والجلادين وقتلة المتظاهرين.. لابد من إغلاق مباحث أمن الدولة ومنع قمع أجهزة الأمن للمواطنين.. لابد من منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية والإفراج عن 12 ألف مدنى محبوسين فى السجن الحربى وإعادة محاكماتهم أمام قاضيهم الطبيعى.. لابد من تحديد الحدين الأدنى والأقصى للأجور والقضاء على الفقر والبطالة.. لقد قامت هذه الثورة من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. سيكتسب الرئيس مصداقيته أو يخسرها بقدر إخلاصه لمبادئ الثورة.
ثالثا: لم يكن لمحمد مرسى أن يصل إلى منصب الرئيس لولا 1200 شاب مصرى ضحوا بحياتهم أثناء الثورة، وألف مصرى مازالوا مفقودين «غالبا تم قتلهم ودفنهم فى أماكن مجهولة»، بالإضافة إلى آلاف المصابين، كثيرون منهم فقدوا عيونهم بالخرطوش.. هؤلاء أصحاب الفضل على مصر، بعد ربنا سبحانه وتعالى، ولولا تضحياتهم لما كان لنا أن نعيش هذه اللحظة. إن واجب الرئيس مرسى أن يبدأ فورا فى تحقيق القصاص العادل من قتلة الشهداء ورعاية أسرهم وعلاج المصابين على أعلى مستوى داخل مصر أو خارجها على نفقة الدولة. لا يجوز للرئيس الجديد أن يترك مصابى الثورة لرعاية فاعلى الخير. لا يجوز أن يترك قتلة الشهداء أحرارا محتفظين بوظائفهم وكأنهم لم يسفكوا دماء بريئة لشباب كل ذنبه أنه انتفض من أجل كرامة المصريين.
رابعا: أمام الرئيس طريقان لا ثالث لهما: إما أن يحقق أهداف الثورة للمصريين جميعا، وإما أن يحقق مصالح جماعة الإخوان المسلمين عن طريق اتفاقات سرية مع المجلس العسكرى.. أرجو ألا يكرر الإخوان أخطاءهم التاريخية، فقد كانوا للأسف، منذ إنشاء الجماعة عام 1928، يعتبرون أن مصلحة الجماعة هى ذاتها مصلحة الوطن، مما أوقعهم دائما فى تحالفات مع السلطة أضرت كثيرا بالحركة الوطنية.. كان آخرها تحالفهم مع المجلس العسكرى بعد الثورة، الذى أضاع علينا فرصة كتابة دستور جديد وأوقعنا فى هذه المحنة. إن مهمة مرسى لن تكون سهلة لأنه سيواجه نظام مبارك، الذى مازال مسيطرا على الدولة، وأتوقع أن يقاوم التغيير بشدة. فى معركته الضارية مع نظام مبارك سيحتاج الرئيس إلى دعم المصريين جميعا، ولن يحصل عليه إلا إذا ناضل من أجل مصر وليس من أجل الإخوان المسلمين.
خامسا: تعهد الرئيس مرسى دائما بالحفاظ على «مدنية الدولة»، وهذا التعبير يمكن تفسيره بطرق مختلفة. المقصود بمدنية الدولة فى رأيى تحقيق ركائز أربع:
الركيزة الأولى: حقوق المواطنة.. المواطن المصرى يجب أن يحصل على حقوقه كاملة بغض النظر عن دينه. كل حقوق الأقباط التى أهدرت أيام مبارك يجب أن يحصلوا عليها فى عهد الرئيس الجديد، كما يقضى الإسلام الحقيقى. الركيزة الثانية: حماية الحريات الشخصية المستقرة فى مصر منذ قرون. من مظاهر حضارة مصر أنك وحدك تحدد أسلوب حياتك فى حدود القانون، أما لو تم الاعتداء على الحريات الشخصية من أجل تنفيذ برنامج أخلاقى يحيل المواطنين إلى رعايا مقموعين تحت الوصاية، كما يحدث فى السودان والسعودية، فستكون هذه عودة إلى عصور الظلام وكارثة على مصر كلها.. الركيزة الثالثة: حماية حرية الفكر والإبداع، وهنا نحذر الرئيس من الاستماع إلى أصوات المتشددين المعادين للثقافة والفن. لقد كانت مصر دائما قلعة الفن والفكر فى الشرق.
لن نقبل أبدا بأن يخضع الإبداع لرقابة المتزمتين، لأن ذلك سيؤدى إلى ضياع تراثنا الفنى والقضاء على الإبداع المصرى، الذى نفخر به جميعا.. الفكر لا يواجه إلا بالفكر والإبداع، لا سلطان لأحد عليه إلا بالقانون. هذه هى القاعدة الذهبية لحماية الثقافة المصرية.. الركيزة الرابعة: أى محاولة لتطبيق الحدود طبقا للشريعة الآن ستؤدى إلى تمزق المجتمع المصرى، والدكتور مرسى يعرف جيدا أنه لا يمكن تطبيق العقوبات فى الشريعة قبل القضاء على الفقر والجهل والمرض. لا يجوز قطع أيدى السارقين قبل أن نوفر لهم حياة كريمة. هذه قاعدة إنسانية قبل أن تكون فقهية.
إن الشعب المصرى، الذى انتخب محمد مرسى، ينتظر منه الكثير، وسوف يسانده بقوة مادام يعمل لصالح مصر ويحقق أهداف الثورة.
الديمقراطية هى الحل